معابد الرسّامين : حيث يمضي الملاك حياته واقفاً

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
19/05/2012 06:00 AM
GMT



غالباً ما أنظر بشفقة إلى الرسّامين الذين يضطرون إلى ممارسة الرسم أمام المارّة العابرين. بالنسبة الى رسّامي الساحات الذين يدمنون العمل في الأماكن العامة، فإن الخيط الذي يصل بين أرواحهم والمهمة التي يقومون بها قد انقطع منذ زمن طويل. لذلك فإن شعوري بالشفقة لا يناسبهم. هذا نوع مختلف من الرسّامين، لا يصلح لقياس حساسيته، بسبب خضوع تلك الحساسية لشروط مهنة واضحة المعالم، تضع الفن مباشرةً في خدمة سلوك تجاري، قوامه العرض والطلب. هناك نوع بريء من الرسّامين هو مَن يستحق الشفقة. لقد رأيتُ صديقي الرسام السوري ناصر حسين وهو يقف مضطراً أمام قماشة بيضاء في حديقة عامة وكان مشهده يدعو إلى الرثاء. كانت الحيرة تملأ عينيه: كيف يمكنه أن يستدعي أشكاله من غيابها في حضور بشر آخرين؟ هناك انتهاك واضح لاتفاق ضمني، طرفاه: الرسّام وكائناته. علاقة حميمية من هذا النوع لا يمكنها أن تكون موقع فرجة.

أفهم ما الذي ترمي إليه جملة الرسّام: سأفشل يا صديقي. الرسّام ليس ماكينة، خياله لا يعمل إلا باعتباره جزءاً من طقس سرّي. يرعى ذلك الخيال كائناته في منطقة يغطّيها الضباب، يسرح بها بين الحقول لتغذيها رؤاه. وهو يبصرها بطريقة أفضل حين يغمض الرسام عينيه، حين يحلم ذلك الشخص الذي قُدٍِّر له أن يلاحق مصائر تلك الكائنات وهي تتشكل. يوم خرج الانطباعيون الفرنسيون منتصف القرن التاسع عشر من مراسمهم لينفّذوا أعمالهم وسط الطبيعة، لم يفكروا في أنهم سيكونون عرضة لفرجة المارة. فلا مارة حيث كان الواحد منهم يختلي بالطبيعة ليراقب تحولاتها ويفككّ أصباغها. ولأن الرسّام يستخرج أشكاله وهي لا تزال ليّنة، مبتلة بماء ولادتها، متعثرة في مشيتها كما لو أنها لم تجرّب المشي من قبل، فإنه يفضّل أن يختلي بها، لا ليعيد خلقها، بل ليهذّب خطواتها، يؤنسنها، يضفي عليها شيئاً من خيلاء التماهي مع النظرات الغريبة.
"سأفشل قبلك في النظر"، قلت لصديقي الرسّام.


 
مرسم جيورجيو موراندي
 

النوم في مرسم

كنت في صبايَ أحلم في الدخول إلى مراسم الرسّامين الذين أحبّ رسومهم. لا من أجل أن أراهم وهم يعملون، فأنا أعرف أن ذلك حلم صعب التحقق، بل من أجل أن أتنفس هواء تلك الرسوم، وأخترق بجسدي الفضاء الذي كانت تلك الرسوم تتنقل فيه بطريقة خفية قبل أن تحطّ على سطوح اللوحات. على الرغم من أنني دخلتُ إلى مراسم عشرات الرسّامين (نمت في مرسم صديقي محمد جالوس ليالي عدة)، غير أن تلك الرغبة لم تفارقني حتى هذه اللحظة. لا لشيء إلا لأن المرسم معبد شخصي، بين زواياه تقيم الكثير من الكلمات التي تظهر غامضة في الصلوات، أي اللوحات. كل مرسم يشبه صاحبه. بالقوة نفسها، فإن الرسام يشي بمرسمه أيضاً. علاقة تعبّر عنها العزلة في أرقّ صورها وأكثرها شفافية. الرسّام كائن قلق، لا يتحلى بالصبر. غير أنه يعرف أن مرسمه هو أشبه بغار حرّاء، لذلك فإن الوحي إن لم يحضر فإنه لا يذهب إلى مكان آخر. عليه أن ينتظره هنا. هناك موعد سرّي عليه أن لا يخلفه. يجلس هنري ماتيس شيخاً وهو يتأمل موديله العاري. هل كان الرسّام يدرس بصرياً شكل الفتاة التي تكاد أن تقع على الأرض بسبب صعوبة الوضع التمثيلي الذي انتهى إليه جسدها؟
ككل رسّام، فإن ماتيس درس الجسد الانثوي، رسمه، اختزله، تذوّق أنوثته خيالياً، شمّه ونثر رائحته في الهواء، عصره وسكب عصيره في ما لا يُحصى من الكؤوس. لكنه يجد نفسه في الصورة مختلفاً. هذه المرة عليه أن ينتظر نداء مختلفاً. قد تقع الفتاة على الأرض قبل أن يهبط الملاك. مع ذلك فإن الوحي قريب، غير أن قدميه لا تمسّان سوى أرض كان قد خبرها من قبل. هناك وحي لا يحبّ رائحة التبغ مثلاً، وقد لا يهوى منظر النبيذ الأحمر في الكؤوس، ولا يحبّ مرأى النساء العاريات. لن يلام الرسّام في ذلك. اللوم كلّه يقع على الملاك. هناك كلمات يتبادلها الرسّام وملاكه، لا تقال لأحد آخر. لذلك فإن الرسّام الحقيقي لا يجرؤ على نقل خبرته إلا من خلال الرسوم، خشية أن يغضب الملاك.


ليست هناك مرّة مقبلة

سيكون علينا أن نكون حذرين حين نقف أمام فنّان يقول للآخرين: سأعلمكم شيئاً من خبرتي الفنية. فإما أن يكون ذلك الشخص خائناً وإما أن يكون كاذباً. في الحالين يمكننا أن نحكم عليه بالخواء. لقد تخلّت عنه الملائكة وجفّت ينابيع خياله. ينظر ألبرتو جاكومتي إلى الأعلى. في مرسمه نرى أشكاله الهاذية بشقائها، المهددة بفنائها. ما بقي منها ينوب عنها، في الصورة على الأقل. هناك امتحان عسير يواجهه النحّات والرسام السويسري لن يكون سؤاله ميسراً. هل حضرت قبل الموعد؟ مَن يسأل مَن؟ الفنان أم الملاك؟ سنكون دائما إثنين، أحياناً نكون ذلك الواحد الذي تُسقط فيه إرادة الخلق قوتها. ألا يعني ذلك أن الفنان لا يثق بملاكه دائما؟
سأعود اليك في المرة المقبلة بطريقة أفضل، لن يقول الملاك جملةً من هذا النوع، حين يفشل الرسّام في تلقّي الوحي.       
لم يسع ناصر حسين إلى خداع ملاكه، وهو الذي دأب على أن يكون الرسم وسيلة للإخفاء. أتذكر أني حين ذهبتُ إلى مرسمه، قد هبطت سلّماً لكي أصل إلى أرض المرسم. كان معي الرسّام والكاتب المصري عادل السيوي الذي كان شاهداً. مرتبكاً مثله، كان مرسمه. إن كان صبرك لا ينفد بسرعة فسترى ما يسحرك. هذا الرسام لا يقدّم نفسه بما يليق برسومه بسبب خجله. ربما لأنه خائف من ملاكه الذي قرر أن يقيم في المرسم. ينظر ناصر إليك وفي اللحظة ذاتها يلقي نظرة على ملاكه، الذي لا يراه أحد سواه. لقد استعنتُ بعينيه فاهتديت إلى المكان الذي يقف فيه ذلك الملاك. حينها تذكرتُ مرسم الايطالي جورجيو موراندي. كل شيء يوحي بأن العمل انتهى. الرسّام ذهب إلى بيته والملاك غادر إلى السماء. لا اعتقد أن صديقي الرسّام السوري يعيد كل شيء إلى مكانه حين يغادر مرسمه. هنالك فوضى يقف الملاك أمامها حائراً. وإذا كان الرسّام يرتقي يومياً سلّم المرسم ليذهب إلى بيته فإن ملاكه الحارس سيبقى كما أتوقع في مكانه، لكي لا تشعر تلك الكائنات التي تركها الرسّام ناقصة بالغربة. ملاك يسلّي اتباعه برغبته الغضة في قول شيء لم يقله من قبل. في مرسم ناصر حسين ما من كرسي. الملاك نفسه يقضي حياته واقفاً هناك.
ليتك تأتي لتراه.

الرسّام والممثلة
 
 
 
مرسم بابلو بيكاسو.
 
 

يصف لي رافع الناصري مرسمه الجديد في عمّان. مراسم الناصري الموزعة بين المدن وقد رأيتها كلها، أنيقة مثله. مثل رسومه. يعرف أني أحبّ صورته في مرسمه المغلق على جنّيات الحديقة السموية. كان بيكاسو يشرح لبريجيت باردو شيئاً ما. خلف الممثلة كانت هناك لوحات كثيرة تتشبّه بها. هل كان يقول لها: لقد حلمتك من قبل أن أراك؟ في حقيقتها كانت باردو أقل من حلم بيكاسوي. لكن الواقع يقول غير ذلك. لا بأس. ستكون بريجيت نوعاً من الجنّيات التي سيكون عليَّ أن أحلم في لقائهن في مرسم رافع الناصري الجديد. بسببها سأكون مختلفاً، لن يقولها الناصري. غير أنني أعرف أن مرسماً جديداً سيكون من شأنه أن يجلب ملائكة جدداً، معهم يحضر الوحي بريئاً، كما لو أن أحداً لم يره من قبل. وهذا ما يحلم به الناصري، رسّاماً اختبر المراسم باعتبارها مواقع للعبادة.
قدّم إليَّ ناصر حسين لوحة صغيرة وهو يقول: لقد فشلت.
أرى الملاك وهو يعتذر كلما نظرتُ إلى تلك اللوحة. خارج المختبر نشأت علاقتنا وعلينا أن نبقى هناك. خارج المرسم. يعتذر الرسام لأن لوحته لم تتنفس هواء مرسمه. إقبلها كما هي، لم يقل لي ذلك. كنت قد حملتها مثل لقية. ذكرى صديق مرّ بوقت عصيب. حنانك يكفي. لديَّ ما يرتقي بي سلالم مرسمك. لوحتك تنقذني. وحيداً سأشير إليها: إنها لي.